شكل رحيل الأديب والدبلوماسي السعودي غازي القصيبي، بعد صراعه المرير مع مرض السرطان، صدمة قاسية للمثقفين والكتاب العرب الذين ينتهجون طريقاً وسطاً بين متطرفي اليمين والشمال، ليس في الأدب وحسب، بل في السياسة والدبلوماسية والاجتماع والفن والحياة.
مارس القصيبي ضروباً مختلفة من الكتابة، تنوعت بين الرواية والشعر والبحث الأكاديمي، والمقال، كما مارس النقد الأدبي في كثير من مقالاته. وقد أضفى هذا التنوع على حياة الشاعر والدبلوماسي «كاريزما» خاصة وحضوراً متميزاً في الأوساط الثقافية السعودية والعربية.
ولد غازي القصيبي في الثالث من آذار/مارس 1940 في الهفوف لأسرة تجار ميسورة الحال. ثم انتقل إلى المنامة بالبحرين ليتابع دراسته. ونال ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة، ثم حصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا. أما الدكتوراه في العلاقات الدولية فنالها من جامعة لندن وكانت رسالته فيها حول اليمن، كما أوضح ذلك في كتابه الشهير «حياة في الإدارة».
صدرت للقصيبي في الرواية: شقة الحرية ودنسكو وأبو شلاخ البرمائي والعصفورية، وسبعة، وسعادة السفير. أما في الشعر فصدرت له الدواوين: معركة بلا راية، وأشعار من جزائر اللؤلؤ، وللشهداء، وحديقة الغروب. كما صدرت له مؤلفات أخرى في التنمية والسياسة منها: التنمية، الأسئلة الكبرى وعن هذا وذاك، وباي باي لندن.
تسلم الراحل عدداً من المناصب الدبلوماسية والوزارية، فقد بدأ حياته المهنية أستاذاً مساعداً في كلية التجارة، عام 1965، ثم مستشاراً قانونياً، وعميداً لكلية العلوم الإدارية عام 1971، ثم مديراً للمؤسسة العامة للسكك الحديد.
في عام 1976 أصبح القصيبي وزيراً للصناعة والكهرباء، ثم وزيراً للصحة عام 1982، ووزيراً للعمل 2005.
تقلد مناصب دبلوماسية مهمة، منها: سفير للمملكة لدى البحرين 1984، وبريطانيا 1992.
تذكر للقصيبي مواقف حاسمة، في حياته وأدبه، ففي عام 1984 عندما كان وزيراً للصحة تم إعفاؤه من منصبه بسبب نشره قصيدة «رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة» التي انتقد فيها الفساد والامتيازات التي كانت تحظى بها الطبقة الحاكمة في عهد الملك فهد. وفي عام 2002 أُعفي أيضاً من منصبه كسفير للمملكة في لندن بسبب قصيدة «الشهداء» التي أشاد فيها بالفلسطينية آيات الأخرس التي فجرت نفسها في سوق في القدس ما أدى إلى مقتل اثنين من الإسرائيليين. كما يذكر عنه تشجيعه الشباب السعودي على العمل في الوظائف التي تعتبر في نظره غير محترمة، ولأجل هذا عمل القصيبي عام 2008، وكان يومها وزيراً للعمل، في مطعم هامبرغر في جدة لمدة ثلاث ساعات.
في ما يلي نص التحقيق الذي أجرته «دبي الثقافية» مع عدد من المثقفين العرب حول رحيل الأديب والدبلوماسي السعودي غازي القصيبي:
نموذج متميز
من جهته يقول القاص السعودي ابراهيم مضواح الألمعي: ليس أمامنا ونحن نودّع غازي القصيبي بقامته الإنسانية والأدبية الباذخة، إلا أن نعزّي أنفسنا بأن الراحل وإن لم يجاوز السبعين بحساب السنين، قد عاش بحساب المنجزات أضعافها، فلم تكن حياة القصيبي حياةً واحدةً بل حيوات عديدة، اكتنفها جسمُ شخصٍ واحدٍ، واسمُه، مات كما يموت سائر الناس، ولكنه بمنجزاته سيبقى حاضراً في ذاكرة الأجيال، برغم السنين والأيام، وبرغم آفة النسيان.
يضيف: فلو تتبعنا حياة القصيبي الأكاديمية، أو حياته الإدارية، أو حياته الدبلوماسية، أو سيرته الشعرية، أو سيرته الروائية، أو سيرة القصيبي المثقف الوطني، الطلائعي والرائد المستنير، لوجدناه في كل ذلك نسيجاً وحده، حيث كان نموذجاً متميزاً وفريداً في كل تلك الحيوات المختلفة، فقد كانت كلُّ حياة منها زاخرةً بالأحداث، والإبداع، والإنجازات.
فعلى الصعيد الأدبي، يؤكد الألمعي أنّ القصيبي يمثِّل علامةً فارقةً في مسيرة الشعر السعودي، بل والعربي، من خلال نتاجه الشعري الأصيل، الذي عالج كل أغراض الشعر، برشاقة وجزالةٍ وشفافية، أما في عالم الرواية - يتابع الألمعي - فقد كان الروائي الأول الذي شق بروايته الأولى:(شقة الحرية) الطريق لكل الذين خاضوا التجربة الروائية من بعده، فقد كانت علامة فارقة، في مسيرة الرواية السعودية.
ويلفت إلى أننا إذا تتبعنا حياة القصيبي المثقف الوطني التنويري وجدنا أنفسنا إزاء رجلٍ حارب بقلمه ولسانه، وفكره، في سبيل تنمية وطنه، منذُ كتابه (التنمية والأسئلة الكبرى).
ويختتم الألمعي قائلاً: يعزينا أيضاً في فقيد الوطن والأدب، أننا نقف إزاء مشعلٍ لم يكن نوره باتجاه الماضي والحاضر فحسب، بل جاوز ذلك فكان مشعلاً للمستقبل أيضاً، من خلال بذل تجاربه الموثقة في كتبه ومقالاته السيرية، لكل مريديه وقرائه، وذلك ما ستفيد منه الأجيال المتعاقبة، وما سيبقيه خالدَ الذكر في ذاكرة الأجيال، من خلال كتابته عن سيرته الشعرية، وسيرته الإدارية، في كتابه ذائع الصيت (حياة في الإدارة)، و(العودة سائحاً إلى كاليفورنيا)، و(باي باي لندن)، وعبر مقالاته ومحاضراته، وحواراته.
الروح الوثابة
أما القاص البحريني أحمد المؤذّن فيتساءل قائلاً: ماذا يمكن أن يقال عن واحدة من القامات الأدبية في الخليج والوطن العربي التي تركت أثراً كبيراً بما قدمت من عطاءات تخطت الساحة الثقافية وتمازجت ضمن همّ العمل الدبلوماسي، شخصية شغلت عصرها.. بالطبع فقد فاجأني خبر وفاة الأديب والشاعر الدكتور غازي القصيبي.
يضيف موضحاً: إنّ أول عهد لي بهذا المبدع كان في مطلع تسعينيات القرن الماضي حين كنت على مقاعد الدراسة الثانوية وهناك فوران مندفع لشهية القراءة واقتناء الكتب والمجلات، شدني القصيبي بأسلوبه الشعري الأخاذ فقرأت عن مسيرة حياته مقتطفات من هنا وهناك، فالراحل تميز في تجربته الإبداعية وأعطى في أكثر من مجال وترك بصماته في الرواية والفكر والسياسة ولم يكن الرجل من الذين وقفوا ضد تيار الحداثة في الساحة الثقافية العربية، بل على العكس، استوعب خطابها وأضاف إلى منجزها بلمساته غنية الحضور والتي قدمت الكثير للساحة الثقافية السعودية، حيث سمحت لمؤلفاته بالتداول والإفراج عنها بعد اعتقال تعسفي طويل.
ويرى المؤذن أنّ لحظة قراءة القصيبي تجد تلك الروح الوثابة، شيء ما يزيدك حماساً غريباً فتشعر بنوع من الحميمية وأنت تقترب من تفكير هذا المبدع فينفذ إلى داخلك، خصوصاً بلغته الشعرية القوية التي حفرت لنفسها بصمة فارقة، أعتبر نفسي محظوظاً..
وينهي كلامه بالقول: لترقد روحك بسلام، فإن الزاد الثقافي الذي خلفته سيبقى شاهداً على فروسيتك الأدبية تنهل منه أجيال أمتك العربية.. وأرى أن المملكة العربية السعودية ستكرم مثوى الراحل الكبير بتشييد مركز ثقافي يخلد فكره ومنجزه الإبداعي وهو ما نتمناه حتى لا تذوب ذاكرتنا الثقافية العربية برحيل أساطينها.
الموهبة الرفيعة
بالنسبة إلى الكاتب والشاعر المصري أحمد فضل شبلول فيقول: تعود علاقتي بالشاعر الدكتور غازي القصيبي إلى بداية الثمانينيات وقت أن قرأت له قصيدة عمودية أعجبتني جداً في «المجلة العربية» التي تصدر في العاصمة السعودية، فأرسلت تعليقاً على القصيدة التي لا أذكر اسمها الآن، ونشر التعليق في إحدى صفحات المجلة، وإذا بي، بعد أسبوع واحد، أفاجأ بطرد كتب مرسل من مكتب وزير الصناعة والكهرباء بالسعودية الدكتور غازي القصيبي على عنواني بالإسكندرية.
يتابع: فرحت جداً بالهدية القيمة والتهمت هدية القصيبي قراءة، وكانت عبارة عن دواوين شعره وكتبه في موضوعات أخرى، ثم بدأت أكتب دراسات وعروضاً لها في جريدة «الجزيرة» السعودية، وبدأت رحلة المراسلات البريدية بيني وبين الشاعر الوزير الذي كان يحرر خطاباته بخط يده الرائق.
ويضيف: ظلت العلاقة ممتدة بيني وبين الوزير الشاعر حتى قرأت خبر إقالته من منصبه الوزاري وكان وقتها وزيراً لوزارتين: الصحة، والصناعة والكهرباء، بسبب قصيدته «رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة» التي وجهها إلى الملك الراحل فهد بن عبد العزيز. وانتشرت قصيدة القصيبي بيننا، وأخذت أفكر في العلاقة الإبداعية بين المتنبي والقصيبي، ولماذا ارتدى القصيبي قناع المتنبي في هذه القصيدة وغيرها؟ وأعدت قراءة ديوانه «الحمى»، بعد إعادة قراءة قصيدة «الحمى» للمتنبي، وعقدت دراسة أدبية مطولة بين حمى القصيبي وحمى المتنبي خلصت فيها إلى أن حمى القصيبي كانت مرآة لعصر الانكسار والأحزان العربية والهموم الفردية، وحمى المتنبي كانت مرآة لعصر البطولة والشجاعة والفروسية.
ويكمل قائلاً: كنت أتمنى لقاء القصيبي والجلوس إليه والتحدث معه، خصوصاً أنني كنت أضعه في مرتبة شعرية عالية إلى جوار نزار قباني في استخدامه المفردات السهلة والتراكيب الشعرية المواتية والمبتكرة والموهبة الرفيعة العالية خصوصاً في شعره العمودي والتفعيلي، أما رواياته وكتبه في الإدارة فلها حديث آخر.
ثم يختتم شبلول بالقول: عندما استقرّ بي المقام في الإسكندرية مرة أخرى اقترح علي الصديق الشاعر أحمد محمود مبارك أن نتشارك معاً في كتاب عن القصيبي خصوصاً أن مبارك له مقالات أيضاً عنه، فاتفقنا مع إحدى دور النشر في الإسكندرية على إصدار كتاب بعنوان «تأملات في شعر غازي القصيبي»، أرسلت منه نسختين للقصيبي بالبريد وكان وقتها سفيراً للسعودية في لندن، فإذا به يرسل إلى دار النشر طالباً مئة نسخة من الكتاب بالسعر الذي يحدده الناشر.
ويرى الناقد والكاتب اليمني الدكتور عبد الله البار، أستاذ الأدب والنقد بجامعة صنعاء، أن الشاعر الدكتور غازي القصيبي، قد سبق العديد من شعراء الخليج في ارتياد قصيدة التفعيلة، وتجاوز معجم من سبقوه؛ وبرز بأسلوب ميزه عن غيره من الشعراء، في تاريخ الشعرية العربية في عصرها الحديث.
ويقول «إن في تاريخ الشعرية العربية أعلاماً لا يحصرهم انتماء جغرافي إلى مكان ما، فهم يُعرفون بإبداعهم دون سواه، ويتجاوزون قطريتهم بهذا الانتماء القومي الشاسع، فيغدون مفردات في صيغة الجمع، وعلامات يهتدي بها السائرون في دروب الإبداع،ومن أمثال هؤلاء: نزار قباني، أدونيس، محمد الفيتوري، وغازي القصيبي وآخرون من أمثالهم...
ويتابع الدكتور البار موضحاً أن المبدعين الأعلام من هذا النمط يقرأ المتلقون إبداعهم في ذاته ليتبينوا مقدار ما أنجزوا وعمقه وتألقه في سماء الأدب شعراً ورواية ونقداً وما إلى ذلك، فيعزون على التصنيف الإقليمي، ويظلون نجوماً متلألئة تضيء لكل سائرٍ في ليل، وليست مقتصرة على بقعة من الأرض دون سواها. وهم يتناسلون في الآخرين، ويتركون آثاراً عليهم، ليس لأنهم ينتمون لهذه البقعة من الأرض أو تلك،ولكن لأنهم علامات في فضاء الإبداع. ولأن هؤلاء على هذا المعنى الموصوف سلفاً؛ فإنهم روّاد إبداع في كل عصر وفاتحو اتجاهات في كل زمان وتلك حال القصيبي شاعراً»، ويخلص أستاذ الأدب والنقد بجامعة صنعاء مؤكداً أن «القصيبي قد سبق العديد من شعراء الخليج في ارتياد قصيدة التفعيلة وتجاوز معجم من سبقوه من الشعراء؛ فاختط لنفسه طريقا سار فيه مجلياً، وغدا أسلوبه بصمة إبداع وخصيصة لغة تميزه عن غيره من الشعراء لا في الخليج وحده ولكن في تاريخ الشعرية العربية في عصرها الحديث».
لم يقتصر ذلك الدور الأليق للأديب القصيبي على القصيدة، بل تجاوزه إلى الرواية والثقافة والفكر، ويؤكد الكاتب والناقد الدكتور عادل الشجاع رئيس منتدى النقد الأدبي بصنعاء، أن الدكتور القصيبي كان مثقفاً شاملاً متعدد الإنتاج، وشكل «مزيجاً فريداً من الثقافة والفكر والجمال وصحوة العقل ليس في الخليج فحسب بل والوطن العربي والعالم. وأوضح الدكتور الشجاع: «لقد كشف ديوانه «معركة بلا راية» عن صدمة المعرفة لدى المجتمع السعودي والخليجي بشكل عام، كما أصبح هذا الديوان محوراً من محاور الجدل الثقافي والديني، وأداة للكشف عمّا هو مغيب ومسكوت عنه، في الحياة الثقافية والدينية، ولا ننسى شكوى المؤسسة الدينية، التي تسترزق من الدين، حين حاولت تحريض الملك فيصل على منع هذا الديوان ومصادرته، وحينها شكل الملك فيصل لجنة لدراسة الديوان أو بمعنى أصح محاكمته؛ لولا تدخل الأمير عبد الله حين ذاك، وحثه الملك فيصل على عدم الاستجابة لمطالب المتطرفين وأعداء الجمال.
ويعتقد عادل الشجاع «أن القصيبي كان يدرك أنه تقع عليه مسؤولية التغيير بوصفه مثقفاً، لذا سعى لإجراء حفريات معرفية داخل الثقافة وداخل المجتمع الخليجي على وجه التحديد».
ويؤكد الناقد عادل الشجاع أن القصيبي، رحمه الله، كان مثقفاً شاملاً متعدد الإنتاج، من الشعر إلى الرواية إلى الثقافة والفكر، «لقد أنضج الشعر في السبعينيات من القرن العشرين، وجعل العيون تتجه نحو الخليج، ولم يتوقف الأمر عند الشعر، وإنما تجاوزه إلى الرواية، التي كان علماً من أعلامها وشاهداً على ميلاد هذا الجنس الأدبي، في هذه المنطقة،التي كانت تعد هامشاً؛ فجعل منها مركزاً حين كتب»شقة الحرية»، والتي مازالت تثير جدلاً حتى يومنا هذا. وإذا كانت الرواية في السعودية قد أحدثت ثورة من حيث الكم والكيف في السنوات الأخيرة فإن روايتي «شقة الحرية»و»والعصفورية» هما الموجهتان للأعمال السردية في المملكة». وأردف قائلاً:» لا أبالغ إذا ما قلت إن القصيبي، هو من وسع دائرة القراءة في الخليج، فقد كانت كتبه و دواوينه و رواياته تحدث جدلاً واسعاً وتحريضاً حقيقياً على القراءة، كما كانت مؤلفاته توفر الأدوات الإجرائية للبحث عن المسكوت عنه. لقد كان دائم التحريض للمجتمع على ألا يقرأ السطور المكتوبة، وإنما مابين السطور، ويؤكد ذلك في تقديمه لرواية بنات الرياض التي أحدثت هزة في السعودية والخليج، لقد كان مدركاً أهمية هذه الرواية فقدّم لها».
ويرى الدكتور الشجاع أن القصيبي، قد خطا بثقة من موقع الإداري النابه إلى موقف المفكر، وهو موقف لم يخض غماره من جيله سواه. فهو لم يكن ذلك الأكاديمي فحسب، بل كان ذلك القادر على إنتاج المعرفة، وحسن قراءة الواقع ودفع الناس، نحو الفضاء الأكثر حرية،حيث تتألق قيم المواطنة والمشاركة السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان، مع حس مرهف بما ينطوي عليه العالم الحديث، من روح تتوق لقيم العدالة،وتقدس المعرفة، واحترام لما يقوله الواقع وما تفرضه التجربة. وخلص داعياً إلى تأسيس جائزة باسم القصيبي: «لقد كان رحيله مؤلماً، والفراغ الذي تركه القصيبي أشد إيلاماً، لذا فأنا أدعو لتأسيس جائزة باسمه، تمنح للحرية الفكرية، وهذا أقل ما يمكن أن نقدمه لهذه القامة الفكرية، التي حررت العقل من كثير من هلوساته».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق