الاثنين، 24 يناير 2011

للطباشير فوق الأصابع..لون العصافير





كتب/محمد غبريس

ما زالت رائحة الطباشير تسكن أنفاسي، وصورتها معلقة على جدار ذاكرتي مذ كنت طفلا، وعلى الرغم من  مرور سنوات طويلة على آخر مرة استخدمت فيها الطباشير، فإنني أشعر كلما مررت بجانب أي مدرسة بشيء يشد انتباهي وهو ذلك الغبار المتطاير الذي تلفظه الطباشير على اللوح الخشبي وتحمله النسمات في كل اتجاه، وأحيانا تضعني الصدفة أمام علبة الطباشير في أحد المحلات المخصصة لبيعها، فتستنفر حواسي وتدعوني إلى شراء بعض منها لاسترجاع لحظات دافئة لا تنسى، عندما كان أستاذ الأدب العربي آنذاك يكلفني بمهمة كتابة بعض الأبيات الشعرية على اللوح ثم أنشدها أمام زملائي في الصف.
والآن عندما أرى أولادي يكتبون بالطباشير الملونة خلسة على جدران البيت ويرسمون أشكالا هندسية بريئة فلا أقدر أن أتمالك نفسي فأهب إليهم وألتقط الطباشير بحنين عميق وأصير أكتب ما لذ وطاب من الأقوال المأثورة.
هذه الطباشير رافقتني في الحرب والسلم، وفي الفرح والحزن، وفي أوقات مختلفة، فلي ذكريات قديمة بطعم الطباشير ولي أصابع من ندى الطفولة تمرغت ببياضها، ورفاق كثر، جمعتني بهم، رسومات معبرة تجسد حالات غضب أو رضا مؤقتة، كنا نبثها عبر الطباشير تارة على الطرقات والأرصفة في الأزقة والحارات التي نسكنها، وتارة أخرى على بوابات وحوائط البيوت.
وكم من الطباشير المتكسرة صوبت على وجهي وفي أماكن مختلفة من جسدي، شأني شأن الكثير من زملائي في المدرسة، فكانت الأداة الأسرع بيد المعلم لمعاقبة تلميذ ارتكب خطأ ما، وخصوصا إذا غلبه النعاس أو دفعته الثرثرة إلى عدم الانتباه لشرح الدرس، ومن منا لم يعبر عما يزعجه أو يضايقه بعد انتهاء كل حصة دراسية بكتابة عبارات وتعليقات كاريكاتورية تتسم بالسخرية والنقد، والمهم أننا نسارع على محو هذه الشخبطات بعد سماع دعسات المعلم قادمة من بعيد.
أما في فترة الاستراحة فكنا نتنافس كثيرا من منّا  يكتب على اللوح الخشبي بطريقة جميلة وخط رائع، عنوان الدرس التالي، والتاريخ، والحصة.. وإذا ما استطعنا فعل ذلك بسبب الرقابة المشددة على الصفوف، نغتنم الفرصة ونضع في جيوبنا ما تبقى من طباشير، ونمضي لنعبث بجدران المدرسة.
لا يكاد يمرّ اليوم الدراسي الحافل والطويل إلا وبقايا الطباشير تجول وتصول في كل ناحية من أجسامنا وخصوصا كفوف أيادينا التي يغطيها البياض وبعض الألوان الأخرى، حتى تكاد تكون العودة إلى بيوتنا بعد انتهاء الدوام مختلفة كثيرا عن الذهاب صباحا، وهذا ليس من باب طلب العلم والانكباب على الدرس، وإنما من باب اللعب واللهو اللذين كانا يأخذا حيزا كبيرا في حياتنا الطفولية ثم المراهقة..  
وهذه الرغبة الكبيرة باللعب بالطباشير، تتقد أكثر في مرحلة الجامعة وتصير في بعض الأحيان ثورة، وتتحول الشخبطات الصبيانية والتعليقات الكاريكاتورية إلى شعارات رنانة وخطب من قلب الأحداث والتطورات الدولية، إذ يحرص كل طالب على استخدام لونه المفضل الذي يعكس انتماءه وشخصيته وحالته النفسية، فتتبدل الألوان وتتسلل الطباشير بين الأصابع المتفاوتة الأحجام والطول، وتتناثر ذرّاتها عبر الزمن والتاريخ لتكوّن في رئة كلّ من احتكّ بها وتنشّق غبارها، جمراً للبقاء والحيوية ينزف من الأصابع التي ألفت ملامستها وتطويقها.
لقد ارتبط اسم الطباشير ارتباطاً وثيقاً بالمدرسة والتعليم، ونالت شهرة عابرة للقارات والمحيطات، وتعلّق بها الصغير والكبير، واختبرت الأيدي الناعمة والخشنة، وتنفست الأمل وانتشت بطعم المدن والقرى والوجوه المختلفة، فكم تسللت إلى الحقائب وتدحرجت على صفحات الكتب والدفاتر، وكم تسلّقت زوايا الجيوب واستقرب بعلب الهدايا وأقلام التلوين، إنها أكثر من مجرد طباشير، هي نبض اللوح الخشبي، وهي صوت المعلم الهادر، وأحد أسلحة الحرية المحشوة بالرسومات والتعابير الآخاذة..
ولأنّ الطباشير اكتسبت هذه الأهمية الكبيرة نظراً لدورها المؤثر في المراحل التعليمية المختلفة أصبحت جزءاً مهما في ثقافتنا وتراثنا وتاريخنا الحديث، وقد تجسدت في أشكال متعددة من الكتابة، وتحولت  إلى رمز غزير الدلالات لدى الشعراء، فمن جهته استعان الشاعر الراحل نزار قباني بالطباشير في عدد كبير من قصائده، انطلاقا مما تمثله من ذكريات دافئة مرتبطة بملاعب الطفولة ومراتع الصبا، حيث يقول في قصيدة "100 رسالة حب":   
خذوا الطباشير
والأقلام
والألواح السوداءْ
وعلّموني كلمةً جديدة
أُعلّقها كالحَلَقْ
في أُذُن حبيبتي
أما الشاعر الراحل محمود درويش فقد استخدم "الطباشير" في الكثير من قصائده أيضا، منها "قصيدة الأرض":
وفي شهر آذار،
مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بنات
سقطن على باب مدرسة ابتدائيّة
للطباشير فوق الأصابع لون العصافير
فيما منحت الشاعرة غادة سمان للطباشير في قصيدتها "العلامة الفارقة: العاشقة": أجنحة من حرير لتحلق في فضاء الحرية، حيث تقول:
لماذا تذكّرني شفتاك
بطعم الطباشير في المدرسة، يوم ذقتها خلسة عن المعلمة وكتبت على
اللوح سراً كلمة : "الحرية"؟
لقد أبحرت الطباشير بين أمواج الشعر العالية وتنقلت كالفراشات من قصيدة إلى أخرى، وألقت عطرها قوافٍ مشحونة بالوطن والذكريات، فتمدّدت تحت شمس الأدب والفكر وارتدت وشاحا لكلّ الفصول، فتارة تتساقط مطرا له رائحة الكتب العتيقة، وتارة أخرى تتفتح وردا بين أصابع الأطفال وتزهر قبلاً على خدّ اللوح، وبين ذلك حكايات وقصص مؤثرة من نسيج العمر والحنين، وومضات إبداعية ساحرة تحولت إلى رسومات مدهشة من خلال استخدام الطباشير بالرسم مثلما فعل الفنان البريطاني جوليان بيفيير الذي عرف في بداياته الفنية بعاشق الطباشير حيث أمضى عشر سنوات بالرسم على الأرصفة والحوائط وهو رسام ومبدع في رسم الرسومات ذات الثلاثي أبعاد عند النظر.
تعدّ الطباشير من أقدم الوسائل التعليمية المستخدمة في حقل التعليم، وأكثرها توافرا وانتشارا، وهي قاسم مشترك في جميع الدروس، وكل الصفوف، والمدارس، وقد تطورت الطباشير اليوم في كثير من المدارس الحديثة حيث استخدمت فيها الألوان الزيتية على ألواح من الخشب الأبيض المغطى بطبقة مصقولة تعرف بـ: الفورمايكا"، وأصبح الكثير من الأجيال الجديدة لا يعرفها أو يستخدمها، بسبب طغيان التكنولوجيا حتى في الوسائل التعليمية، وبالكاد يتذكرها أحد نتيجة الانجذاب الكبير للأقلام الزيتية، وفي كل الأحوال يبقى لهذه الأحجار الكلسية النقية الناعمة خصوصيتها وسحرها ودلالها، وصوتها المتقطع بالكتابة فضلا عن نبرة احتكاكها بالخشب حيث تشتعل اللغات بكافة فروعها وأشكالها.








هناك 28 تعليقًا: