الأحد، 23 يناير 2011

الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي: لا أسـامح العصـر الذي ولدت وعشت فيـه


 تخشى على ثقافتنا من انهيار أكبر     

·   لم أتوقف لحظة حتى اليوم، ولم آخـذ إجازة حقيقية واحدة بريئة من الكتب المحمولة من مكان إلى مكان، سافرت إلى أنحـاء العالم دون الاستسلام إلى التعب، وحملت سلة مليئة بجواهر أدبنا وطفت بها العالم.
·   عامل العرب مشروعي كأنه نـافل وفضولي بينما فهم الغربيون قيمته سريعاً سواء من دور النشـر الكبيرة التي نشرت لي دون مشقة إلى الشعراء والأدبـاء المرموقين الذين عملوا معي.
·   مصدر التهميش المبرمج الذي لاقته ثقافتنا .. من عندنا أكثر بكثير مما هو من الغرب، إذ عرفت الثقافة العربية عـدوانا عليها من كتّاب عـرب مشؤومين منذ عشرينـات القرن الماضي.
·   لا أظن أن تاريخ الأدب في العالم مر بتجربة أردأ وأكثر فسادا وظلامية مما مر بأدبنا وثقافتنا منذ عشرينات القرن العشرين وكله هبط علينا باسم الحداثة والإصـلاح.
·   الآخـرون يخترعون لأنفسهم تاريخاً من هشاشة ضئيلة ونحن ندفن التاريخ المليء بالجوهر ولآليء الإبداع ونقفل عليه بالإسمنت وأحيانا نشعر بالخجل منه والرغبة في دفعه عنا كأنــه بلاء نافذ.
·   أرسلت رسالة إلى كل وزارات الثقافة العربية أقترح أن ننجز كتاباً حول حضارتنا في إسبانيا؛ ولم تجبني إلا العراق معتذرة لأنهم في حالة حرب. حالة حرب؟ إنه يكفينا لهذا ثمن برميل من البارود لا أكثر؛ أو ليست ثقافتنا وتاريخنا في حالة حرب؟
حوار/ محمد غبريس
حين نقف أمام المنجز الثقافي لدى الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، بدءا من إنشائها لمؤسسة (بروتا) عام 1980م، لنشر الثقافة والأدب العربيين في العالم الغربي، وصولا إلى آخر أعمالها  كتاب في جزأين عن المدينة في العالم الإسلامي، فإننا بلا شك نقف أمام ثروة أدبية وعلمية هائلة تحوي ما تحوي من جواهر ولآلئ الأدب والعلم والمعرفة، وهذه الثروة التي تأخر العرب عن الالتفات إليها وتقدير أهميتها الكبيرة في حوار الحضارات والتواصل مع الآخر، لاقت اهتماماً لا مثيل له عند الغرب، فقدموا لها العون المادي والمعنوي، في حين انشغلت وزارات الثقافة العربية في أمور أخرى غير الثقافة، علما أن   الدكتورة سلمى  التجأت إلى هذه الوزارات طالبة المساعدة والمساندة ولم تلق إلا الإهمال والإغفال والجهل.
على الرغم من هذا الإجحاف في حقها وحق كل مبدع وعظيم عربي، لم تعر اهتماما كثيرا لذلك وإن لفتها غيمة من الحزن والكآبة، فأشد ما كان يحزنها هو فقر المكتبة العالمية بالكتاب العربي، رغم الأموال والقدرات العربية الهائلة، فمنذ ذلك الحين ود. سلمى تتنقل من بلد إلى آخر، تصدر كتابا تلو الكتاب، حيث استطاعت أن تحدثا تغييرا لافتا في خريطة الثقافة العربية باللغة الإنجليزية، ولكن ما يؤلمها اليوم هو أنها لو لقيت الدعم من الوطن العربي والمسؤولين فيه لكانت فعلت أضعاف ما فعلته لوحدها..
أذكر يوم قابلت الدكتورة سلمى لإجراء هذا الحوار، كانت تبكي تارة وتارة أخرى تبتسم، وأحيانا تغرق في حالة صمت، فحين تأتي على ذكر الإهمال التي لاقته في بلادها، لا تستطيع أن تحبس دموعها، وعندما تتحدث عن المنجز الذي تتطلب منها السهر والسفر والتعب المضني، تعلو وجهها ابتسامة على الفور، أما بالنسبة إلى صمتها فهذا تحتفظ به لنفسها وللزمن.. 
بالنسبة إلى المنجز الإبداعي للدكتورة الجيوسي فنبدأ من الكتاب الذي سيصدر بعد شهر بالإنجليزية  يتناول (حقوق الإنسان في الفكــر العربي ) عن دار "توروس" في لندن ونيويورك، فيما بدأت دار جامعة كولومبيا بنشر مجموعتها المترجمة للقصص العربي القديم وتصدر في الصيف المقبل، كما بدأت د. سلمى العمل على كتاب الحضارة العربيـة الإسلامية في صقليـة بالاشتراك مع مؤسسة بن راشد الثقافية.
نشرت شعرها وكتاباتها النقدية (بالعربية والإنجليزية) في عدد من المجلات والدوريات وصدرت مجموعتها الشعرية الأولى "العودة من النبع الحالم" عام 1960. وترجمت في مطلع الستينات عدداً من الكتب عن الإنجليزية منها كتاب لويز بوغان "إنجازات الشعر الأمريكي في نصف قرن" (1960) وكتاب رالف بارتون باري "إنسانية الإنسان" (1961)، وكتاب آرشيبالد ماكليش "الشعر والتجربة" (1962)، والجزأين الأولين من رباعيّة الإسكندرية للورنس داريل "جوستين" و"بالتازار".
ثم نشرت دار بريل (لندن) كتابها "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" في جزأين عام 1977، ولقد تُرجم الكتاب حديثاً إلى العربية. فيما حررت الدكتورة سلمى أكثر من ثلاثين عملاً من أعمال بروتا، ومن بين هذه الأعمال خمس موسوعات ضخمة للأدب العربي وهي:الشعر العربي الحديث" ( 93 شاعراً ) (منشورات دار جامعة كولومبيا، نيويورك 1987)"، أدب الجزيرة العربية" ( 95 شاعراً وقاصاً ) (الذي نشرته كيغان بول عام 1988 ثم جامعة تكساس 1990و 1994"( ، الأدب الفلسطيني الحديث" ( 103 شاعراً وكاتباً ) (منشورات جامعة كولومبيا، نيويورك 1992، 1993،1994)"، المسرح العربي الحديث" ( 12 مسرحية كبيرة ) (بالاشتراك مع روجر آلن، دار جامعة إنديانا 1995"(، القصة العربية الحديثة ( 104 قاصاً(..
إلى جانب الموسوعات الأدبية فقد حررت كتاب "تراث إسبانيا المسلمة" وهو مجموعة كبيرة من ثمان وأربعين دراسة متخصصة عن جميع مناحي الحضارة الإسلامية في الأندلس، كتب لها فيه اثنان وأربعون أستاذاً متخصصاً في أمريكا وأوروبا والعالم العربي، وقد صدر عن دار "بريل" في هولندا عام 1992 في الذكرى المئوية الخامسة لنهاية الحكم الإسلامي في الأندلس.

·   نقلت الثقافة العربية إلى الانجليزية بجهد فردي من خلال ترجماتك لعشرات الكتب العربية إلى الانجليزية. ما الذي دفعك نحو ذلك؟ وإلى ماذا توصلت؟
عندمـا اكتشفت عن كثب بعد ذهابي إلى أمريكا سنة 1976 فقر المكتبة العالمية بالكتاب العربي كدت أجنّوأذكر يوم زرت سنة 1984 مع الشاعرين التونسيين المنصف الوهايبي ومحمد الغـزي مكتبة أكـاديمية نـوبل في (استوكهولم) ولم نجد فيها إلا أربعة كتب صغيرة من الأدب العربي، كيف أني لم أتمكن ولم يتمكن المنصف ولا محمد من كتمان ذلك الإحساس بالغضب الشديد والحـزن الأشد على هذا الفقـر المخجل وهذا الإهمـال الساحق! كلّ تلك الأموال المتوفرة في العالم العربي اليوم وكلّ تلك الإنجازات السامقة في موروثنا القديم وعطائنا المعاصر ولا شيء يعلن عنّا في العالم؟! كنت قد بدأت مشروعي سنة 1980 ولم تكن كتبنا قد بدأت بالصدور إلا رواية "المتشائل" لإميل حبيبي، ولكني أخذت قراراً في تلك اللحظة أودعته أعماق نفسي هو أن لا أتوقف لحظة واحدة عن السعي نحو تغيير هذا الـوضع المجحف المهين الخالي من أية عـدالة أو وطنية. قال لي صديق كريم هو الأستاذ صدقي الحطاب وكان يعمل في الكويت يومئذ: "هي صـرخة في الـواد يا صديقتي؛عالمنا لن يسمعها"، ولكني مضيت دون تردد لحظة واحدة وسمعني عالمنا يـا صدقي أحياناً بترحيب كبير وعادة بأذن واحدة أنصتت لي وأذن ثانية أنصتت لأنصاف المفكرين وللحساد والذكوريين ومناكيد الثقافة العربية وأحيانا كثيرة لم يسمعني الغافلون. إن أغلب العرب مستعدون أن يقايضوا هذا النوع من العمل بقصيدة حماسية واحدة. الرؤيـا منقوصة وجلها غير صـالح للعصر الذي نعيش فيه؛ وأغلبنا لا يعيش في هذا القرن بعدرميت كل النصائح وراء ظهري ومنذ تلك الساعة التي اتخذت فيها قراري لم أتوقف لحظة حتى اليوم. لم آخـذ إجازة حقيقية واحدة بريئة من الكتب المحمولة من مكان إلى مكان. سافرت إلى أنحـاء العالم دون الاستسلام إلى التعب: أسأل وأتدارس وأضع مخططات البحث القادم وكأن العمر قابل على الامتداد. حملت سلة مليئة بجواهر أدبنا وطفت بها العالم أوسّعها وأعيد ملأهـا مرة بعد مرة بعد مرة.
·       ماذا كانت النتيجة؟
أظن أننا غيرنا خريطة الثقافة العربية باللغة الإنجليزية وأغنينا المكتبة العالمية بالكتاب العربي المـوثق إلى حد لا يمكن أن يتغاضى عنه أحد أو ينكره أحد إلا أُمّيٌّ أو مـدّعٍ بعيد عن الصدق. بالطبع أنـا لا أشعر بالاكتفـاء لأنه كان في قدرتي أن أنجز على الأقل ثلاثة أضعـاف ما فعلت لـو أني لقيت سرعة قبول من الـوطن والمسؤولين فيه ولكني كنت أمضي وقتا طويلا في محاولة الحصول على ما يمكّننا من القيام بالعمل المعين: عملا بعد عمل.
 أعطيك مثلا: سنة 1991 قررت تحرير كتاب شامل عن المدينة الإسلامية بعد أن رأيت كتاب "لويس ممفـورد" الكبير الشهير عن "المدينة في التاريخ" وفيه وصف رائع للمدينة ونموها وتطورها دون أن يذكـر مدينة إسلامية واحدة! انغلق شيء في داخلي يوم اطلعت عليه. ماذا؟ هل كنّا هبّة نسيم وانطفأنـا؟ أإلى هذا الحد يعم علينا الإنكار والتعتيم؟ أخذت عهداً على نفسي أن لا أستريح حتّى أحرر كتاباً شاملاً عن المدينة الإسلامية وبـدأ من بعدها الدوار. بـدأ البحث والمسعى. أمضيت إحدى عشرة سنة أسعى دون يأس حتى سمع ندائي أمير شاب مولع بإنجازات الحضارة العربية القديمة هو الأمير عبد العزيز بن فهد فأسعفنا. أنجزت هذا الكتاب الشامل في جزأين كبيرين بالتعاون البهج مع ثلاثة باحثين كبار من المختصين بالمدينة الإسلامية ولكن هذا حدث كما أسلفت بعد السعي المضني لمدة إحدى عشرة سنة . وها هو الكتاب صدر منذ شهر واحد في جزئين كبيرين عن دار "بريل" في هولانـدا.
·   تقولين إن المشاريع التي قمت بها لاقت ايجابيات في الغرب أكثر وأكبر مما لاقته في العالم العربي، برأيك لماذا؟
أحبّ أولاً أن ألفت النظر إلى أمر لم أكن أتوقعه إطلاقاً (وإن كنت أتمنّـاه) عندما بـدأت العمل الطموح في مشروعي وهو أن الآخـر أو من كان مهتماً في الغـرب من ناحية أو أخـرى بالثقافة العربية كان يهمّه كثيراً الاطلاع على ما يبدعه العرب، مقدماً إليه بلغة إنجليزية راقية هي اللغة العالمية اليـوم. هذا كان اكتشافاً زاد كثيراً من إصراري على الاستمرار بالمشروع ومضاعفة العمل عليه. وإن كانت العقبات الكبيرة التي واجهها المشروع في الوطن العربي (والتي ما زال يواجهها) كفيلة بغض النظر عن الاستمرار بـه وعن متابعة العـذاب الذي ابتُلـي به، ولكن نجـاحه في الغـرب والسمعة التي كسبها سريعاً منذ صدور أوّل مجلد أنجزنـاه، وإيماني الكامل الفكري والروحي بجدارته وضـرورته الماسّـة  دفعنـي إلى التحمل والمتـابعة بصبر كبير لم يزل يدهشني لأنني نـزقة بطبعي ولا أتحمل المـائل؛ أما من أين جاءني الصبـر فهذا ما لا أعرفه؟!. لعله ينبع من حب كبير ملأ عليّ نفسي. القضية الكبرى هي أن العرب لم يتمثلـوا فكرة المشروع في البـدء وحاجة الثقافة العربية إليه . عاملوه كأنه نـافل وفضولي بينما فهم الغربيون قيمته سريعاً سواء من دور النشـر الكبيرة التي نشرت لنـا دون مشقة إلى الشعراء والأدبـاء المرموقين الذين عملوا معي، إلى الجـامعات المختلفة التي تدرس الثقافة العربية إلخ. هؤلاء قدروه كثيراً وكرموه كثيراً. وكان هذا مبعثاً على الثقة والإصرار المتزايد على الاستمرار.
·   كيف سنواجه التهميش المبرمج لحضارتنا وثقافتنا ونصبح جزءاً من الحركة الإنسانية وتقدمها؟
لا بدّ من القول إن مصدر التهميش المبرمج الذي لاقته ثقافتنا هو من عندنا أكثر بكثير مما هو من الغرب. لقد عرفت الثقافة العربية البالغة العراقة عـدوانا عليها من كتّاب عـرب مشؤومين لم يكتشف العرب المعاصرون بعد عمق عدوانهم وفساده المذهل . هؤلاء الذين بدؤوا عدوانهم على براءة هذه الثقافة وشموخ إبـداعها منذ عشرينـات القرن الماضي واستمـروا يلدون ورثتهم من بين كتابنا وشعرائنا حتى الآن نجحوا نجاحـا لا يصدق في تهميش الثقافة العربية الممتدة عبر القرون في أعين أهلها وأعين الآخـرين وإنكـار عظمتها وما هو أسوأ:اختـراع المثالب لها والتـأكيـد على ما حصل فيها من هنـات دون محاولة إظهـار قوتها، وشموليتها، وتعددية المواضيع والأجناس التي طرقتهـا ونصاعة إبـداعها. أنا لا أكاد أصدق أن كل هذا الإنجاز الهائل الذي قدمته الثقافة العربية عبر العصور داس عليه هؤلاء دون خوف أو تحسّب لردود فعل كنّا أمينين بالإعلان عنها ومحاسبة مقترفي تلك الجريمة الثقافية الكبرى في حقنا. لقد عاث هؤلاء فساداً ولم يفطن لهم العرب بعد كلياً ولم يقارعوهم بالحجة البليغة الواضحة. عندما يحدث هذا سيتغيّر كلّ شيء. إلا أنّ هذا الوضع الذي سطا علينا بقسوة وأفقد الشبيبة العربية (والرسميين العرب) ثقتهم بإنجـازات ثقافتهم عبر العصور جعل فهمهم لمشروع يحاول تـأكيد أهمية هذه الثقافة أمراً صعباً.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                               
·   من المعروف أنّ هناك تجاهلا وإهمالا كبيرين يواجههما الأدب والثقافة العربية في العالم الغربي؟ كيف تفسرين ذلك؟                     
 باختصار شديد يعود هذا إلى ما يلي: أولا: تبدو الحـركة الثقافية اليـوم عندنا منكبة على الأخذ من الآخـر دون الانتباه إلى أن في مقدورنا أن نجعل من عملية التثاقف عملية تبادلية تحفظ لنا قيمة وحقا وتفرض لنا احترام هذا الآخـر . كيف بربك تقرر أن تـأخذ وتتغــاضى عن أنه بإمكانك أن تعطي ؟ إن عند الآخرين ما يمكننا الاستفادة منه بالطبع ولكن عندنا ثروة كبيرة مدفـونة دون العالم ودوننا نحن أيضا وهي في حاجة إلى إعادة الاكتشاف وبإمكاننا نحن والآخرون الاستفادة الكبيرة منها.
 ثانيا: ساعد في هذا كثيرا إنكار بعض الكتاب العرب في العصر الحديث لإنجازنا القديم والحديث والهجوم الصارخ الذي فاجـؤونا به ضـد كل ذلك الإبداع  المتنور. ما جاء منهم بإسلوب ماكر كان مقنعاً للشبان الطامحين إلى الدخول إلى هذا العصر وولوج الحداثة وتذوق الحرية التي حرمنا منها حكام عتاة. حديثهم ذاك الأنيق عن هذه الحداثة والحرية توحدت مع رفض القديم واحتقاره . بعدها لم يعد ممكناً لمشروعهم أن يخيب لأنه أصبح جزءا من الحلم الذي راود أجفان الشبيبة وقلوبهم منذ فهموا شيئا عن حياة عصرهم المليء بالتناقض والعذاب. ولم ينبـرِ حداثيّ واحد يدافع عن نصاعة الموروثات وأصـالتها. لم يدافع عنها سوى السلفيي الرؤى فاكتست بشيء غير قليل من السلفية والتنفير. لا أظن أن تاريخ الأدب في العالم مر بتجربة أردأ وأكثر فسادا وظلامية مما مر بأدبنا وثقافتنا منذ عشرينات القرن العشرين وكله هبط علينا باسم الحداثة والإصـلاح . وبهذا تخلخلت المفاهيم حتى أن مجرد الدفاع عن التراث كان كفيلاً بأن يضعك في قائمة السلفيين. كانت رسالتهم هي أنك لكي تبلغ الحداثة يجب أن ترمي موروثك في بحر النسيان، يجب  أن تقتلع جذورك الثقافية وتتجاهل تاريخها وفحواها. أنا أوّل من رحب بالتجديد. كل ما كتبته كان شاهـدا على كره التقليد والتكرار في الأدب والفكر (أنظر كتابي عن الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث). ولكن رفض التقليد لا يمكن أن يعني رفض الموروث وكتمان قيمته ودفن إبداعه. لكل عصر عطاؤه وتاريخه وبهجة إبداعه ومحب الإبـداع في الفكر والأدب لا يشترط الانغلاق على العطاء المعاصر ونبذ ما سبق. غير أن هذا سوف يتغير جذرياً عندما يبرز إلى الميدان حداثيون حقيقيون ينفرون من الأساليب الوضيعة التي انتشرت في عصرنا هذا لتطبيق مخطط هدام يهدف إلى تقويض جسد الثقافة العربية وشرذمتها وتشتيت العقل والوعي.لا أستطيع أن أصدّق أن عربيا كريما يعيش في زمن الغـدر والإنكار يرضى أن  يصادق على إهانة نفسه وأمته وتفضيل الآخـر على كرامته وميراثه. ها هم الآخـرون يخترعون لأنفسهم تاريخاً من هشاشة ضئيلة ونحن ندفن التاريخ المليء بالجوهر ولآليء الإبداع ونقفل عليه بالإسمنت وأحيانا نشعر بالخجل منه والرغبة في دفعه عنا كأنــه بلاء نافذ. لقد رأيت هذا بعينـيّ وأنا بعد شابة طرية العـود وامتـلأ قلبي بالحزن، حزن لم يتركني يوماً واحداً منذ كشف وجهه اليائس لي وخاطبني بلسان صامت. لم أكن بعد قادرة على مجابهة العالم، لم أجد عندي في ذلك الـوقت الحجة الحاسمة التي أدركتها يومئذ بضميري وغريزتي الفنية قبل أن أتمكن من الإشارة إليها بالكلام والبرهان والدراسة المكرسة. ولكني عايشتها ولم أخرج عنها؛ ثم عندما حان الوقت، كرست حياتي لدراستها  لأكتشف ألـوان الإبـداع وآفاق الفـكر التي أنكرناها جهلاً منا وإيمـانـاً بتقولات الجاهلين بها والمغرضين ضدها. ثم جاء يوم هو أقسى وأجمل أيام عمري اشتعل به في نفسي ذلك الشرر القاسي المتوهج بنور رفض أن ينطفئ، نور لم يتمكن من إطفائه لا المحبون الذين جزعوا لي ولغربتي في عالم تـأخر عن التصالح معي ولا الكارهون العتاة الذين ظلموني وعصيت على ظلمهم. تُرى كيف يستطيع الإنسان أن يتحمل ظلماً كهذا الذي فتح مغاليق نفسي وطمر منابع الخوف من الحياة ومن الضياع تحمله عندما خاطبني تلميذ قميء في عالم جديد لا تاريخ له كتاريخي فأشهر بجرأة واثقة إنكاره لثقافة مبـدعة سباقة مغرقة في عطاء طويل؟ دفعة واحدة رميت عني التردد والخوف من الحياة وقررت أن أواجه، وحدي إذا لـزم الأمـر، المعــركة التي لن تنتهي بانتهاء حياتي، المعركة التي لا آخـر لها مهما طال عمري، لأنها معركة الثقافـة العربية الباذخة الغنى التي لن يغطيها عمل فـردي واحد أو شغف القلب مهما عمـر به الحب.
·       حسنا، ماذا لقيت من الغرب خلال هذه المغامرة الطويلة؟
أخـلا هذا العالم العربي الكبيــر الممتد من محيط إلى محيط ومن تاريخ إلى تاريخ، أخـلا من فضيلة احترام الذات التي هي أعظم الفضائل؟ وبها وحدها نكفل صفح العالم عن تقلصنا وتهاوننا ونضمن احترامه وتقديره؟ مـاذا لقيت أنا من الغرب خلال هذه المغامرة الطويلة التي وصلتْ بي إلى قمة الإرهـاق وفي الوقت نفسه ملأتني فرحاً وراحة ضمير؟ لم ألقَ إلا الاحترام والثقـة والإحساس الحاسم بتكافل الثقافات. برهن ذلك العالم الغريب على صدق حدسي، على أن الإبداع إنساني شامل، على أن العالم ليس عدوّنـا. فرغم انغلاق السياسة العالمية عنّا واستغلال بؤر الضعف فينا تظل مسارب الإنسانية الخلاقة منفتحة ويظل تقدير الجمـال والإبداع بريئا من الغدر. وباسم هذا التكافل الإنساني الشامل وتصالح الإبداع الإنساني في كل مكان، باسم العطاء الخلاق الذي تتعرف إليه جميع الثقافات لحظة يثبت وجوده المتوهج توجهت بالإبداع العربي إلى شعراء الإنجليزية المرموقين فشاركوني التجربة بسلاسة ومودة كبيـرة وإلى كبريات دور النشر فأخذت كتبي بحرارة وأحيانا أخذتها قبل أن أبـدأ بهاأليس هذا دليلاً صارخاً على أن ممتلكنا من الإبـداع والعطاء الخلاق غني باذخ وأن كلّ ما علينا هو أن نتقن تقديمـه إلى العالم؟  
·   أريد رأيك بكل صراحة، هل تأخرت جائزة سلطان بن علي العويس للإنجاز الثقافي والعلمي في إنصافك، أم جاءت في الوقت المناسب؟
قد تكون تـأخرت ولكن كل شيء يجد مكانه الصحيح في النهاية. ومؤسسة العويس مؤسسة جـادة أحترمها كثيـراً وقد خدمت الثقافة المعاصرة خدمة جليلةولكني كنت دائماً أعرف أن للجان التي تختار الفائزين من تفضلهم وهذا قد لا يعتمد دائماً على قيمة العمل الذي قدموه. هنا، بالنسبة إليّ، كان مصـدر الأسـى وكان السبب في أني شعرت بأني لا أسـامح العصـر الذي ولدت وعشت فيـه. إن مـا جرحني في شغاف قلبي هو عدم الاعتراف الرسمي المبكر بمعنى العمل الذي كنت أقوم به بعذاب كبير ونجاح أكبر لمصلحة الثقافة العربية. لم أشعر بأن معناه وجدواه وجدا أعيناً ترى وآذاناً تسمع حتى بعد صدور كتابي عن الحضارة العربية في الأندلس الذي كان لـه صـدىً كبير في الغرب وفي الشرق الأقصى ولم أشعر بأن نفس ردود الفعل لنسخته العربية حدثت عندنا عن طريق المراجعات رغم أنه حسب ما أسمع من بائعي الكتب الذين يبيعونه يجد في المعارض إقبالاً كبيراً. هذا ما أسمعه عنه لأنّي لا آخـذ أي عائدات من مركز دراسات الوحدة العربية الذي نشره وعليّ فإني أظل بعيدة عن تقدير مدى نجاحه في العالم العربي
سيجيء جيل عربي ناصع الرؤيا وأكبر استقلالاً فكرياً وأوسع دراية وقد تخلص من وطأة الأزيـاء التي فرضها البعض على الأدب العربي المعاصر وتخلص كذلك من الأفكار المشعوذة التي عمت ساحة الأدب وأهم من كل شيء تخلص من عبادة البـلاغـة والخطاب العالي الصوت المليء بكليشيهـات لم يعد لها مكان في ظل الأوضاع العربية المعاصـرة. نحن نعيش اليوم مأساة اندحار عجيب لم يكن ملزماً ولا جاء طبيعياً في مسيرة الأدب المألـوفة بل أُقحم علينا إقحـامـاً وعجزنا إزاءه عن شق طريق سويّ لنـا ينسجم مع حداثـة العـالـم. غير أن ما جرحني كان أن الوطن لم يفطن سريعا إلى الرؤيا التي كمنت وراء هذا العمل، لم يدرك هدفه وضرورته الملزمة لتي لا غنىً عنها إذا كنا نريد أن ندخل إلى ساحة الثقافة العالمية بشرف وكبرياء. كنت أعمل وحدي وبوحشة كبيرة. أذهلني أني كنت أتكلم لغـة لم تتمكن من الإفصـاح عن نفسهـا، لم تتمكن من الولـوج إلى قلـوبهم وعقولهـم، أولئك القابضين على مقدرات الثقافة ومصيرهـا؛ أولئك الذين كان بإمكانهم أن يقلبوا الـوضع قلباً ويعيدوا الثقة والرضا إلى شبيبة عربية تستحق أن تعرف حقيقة تاريخها الإبداعي وتطمئن إلى ثروته وعطائه وقدرته على الاستمرار. كان استخفافهم مزرياً، لم أتحملـه إلا لشدّة حرصي على أن لا أحرك أنَـواتِهم القلقة  فتسكب مزيداً من الحقد على مقدرات الثقافة ومصيرها. يكفيك مثلاً على هذا قصة كتـابي عن إسبانيا المسلمة. فطنت فجأة إلى اقتراب الذكرى الخمسمائة لانتهاء الحكم العربي في الأندلس. فأرسلت رسالة إلى كل وزارات الثقافة العربية أقترح أن ننجز كتاباً حول حضارتنا في إسبانيا؛ ولم تجبني إلا العراق معتذرة لأنهم في حالة حرب. حالة حرب؟ إنه يكفينا لهذا ثمن برميل من البارود لا أكثر؛ أو ليست ثقافتنا وتاريخنا في حالة حرب؟ أما الوزارات الأخرى فلم تكترث، ما شاء اللــه، حتى بإجابة قصيرة. عندها هرعت إلى الآغا خان وبعد مضي أربعة عشر شهراً من التراسل والتفاهم نلت منه المنحة وكانت التسعينـات قد بـدأت. عملنا ليل نهار دون توقف لأنّ الكتاب الذي صممتـه كان يجب أن يكـون شاملاً متكاملاً متقناً وكان يجب أن يصـدر سنة 1992. وحـدث هذا وصدر الكتاب في 1100 صفحة وجاء مفاجأة حتى لي بما صدر عنه من مراجعات كثيرة رائعة وكان أكثر كتب دار "بريل" نجاحاً في تاريخهم الطـويل. ولكني أظن أن هذا الوضع يجب أن يكون في طريقه إلى نهاية حاسمة. كل شيء يشير إلى ضرورة هذا الآن؛ المنطق يمليه والحياة النابضة تتطلبـه بشدة.
·   ترجمت الكثير من الكتب الانجليزية القيمة إلى العربية، على سبيل المثال لا الحصر كتاب " انجازات الشعر الأميركي في نصف قرن"، وكتاب رالف بارتون باري "إنسانية الإنسان"، وكتاب آرشيبالد ماكليش "الشعر والتجربة"..ماذا وجدت في الأدب الانجليزي ولم تجديه في الأدب العربي؟
مشكلة الأدب العربي الأولى هي تشرذم العالم العربي. فمن ناحية تجد في الأدب العربي وحدة كبيرة. مثلا: ليس من السهل أن تخمن من أي قطر عربي جاءت قصيدة معينة إذا كانت غير ممهورة باسم كاتبها. وفي الوقت نفسه تجد أن كل قطر يحـاول تأكيد ما برز عنده من مواهب فكثر من يكتب عن الأدب في هذه البلدان العربية وكل منهم يكتب عن معارفه وأصدقائه أو أبناء بلـده ولم يكونوا جميعهم مؤهلين ولا كان جميع من كتبوا عنهم من شعراء وكتاب عملة في الصحافة الأدبية مؤهلين، فاختلط الأمر على القراء وضاعت بوصلة الدرب. حتى الآن ليس عندنا مقاييس متعارف عليها للأدب والفن فإذا كتب شاعر ناشئ قصيدة لا بأس بها أصبح شاعرا كبيـرا والأمر نفسه مع كتاب القصة والرواية. وهبط فيما هبط النقد الأدبي إلى درجة مذهلـة. هذا لا تـراه في الغـرب. إذ لا يصبح أي مبدع "كبيرا" إلا بعد استمرار طويل في الكتابة الرفيعة. أما النقد فإن ناقدا لا يعرف أصول النقد في الغرب لن يجد ناشرا ينشره لأن النشر في الغـرب أمر عسيـر لـه شروطـه وقواعده ولا يقبل ناشر منك شيئا إلا بعد أن تزكيه لجان مختصة لا علاقة لها إطلاقا بالكاتب أو الشاعر. يشذ عن هذه القواعد بالطبع من كان للنشر ثقة كاملة بما سيقدمه الكاتب أو الشاعر تعود إما إلى شهرته العامة أو إلى تجربة الدار النشرية في تعامل سابق معه. هذه الفـوضى الهائلة عندنا أفسدت الكثير من المعرفة بأصـول الإبداع وقيمته الحقيقية. وأنا عاجزة عن التعامل معها.
الكتب التي ترجمتها عن الإنجليزية منذ سنوات طويلـة كانت إجمالاً كتباً جيدة وكان أهمها بالنسبة إليّ كناقدة كتاب لويز بـوغان "خمسون سنة من الشعر الأمريكي".  إذا وجدته فاقرأه. لقـد وجدت أنا فيه الإجابة الكـاملـة عن تساؤلات في تاريخ الأدب كنت أطرحها على نفسي وأعرف جوابها في حدسي دون أن أستوعبه بالكلمـات: فأعطتني بوغان التعبير الذي يصفها وهو ما كنت أسعـى إليه ومختصره هو أن الفن لا يتغير فقط اعتمـاداً على ما يحدث خارج الأدب نفسه وإنما يتبع تغيره نمـو الأدب داخلياً، فالفن، وهذا من عندي، كائن عضوي يجب أن ينمو هو وجميع أدواته قبل أن ينفتح إلى التغيير. لقد أفدت كثيراً من بوغان وأسلوبها في معالجة هذا الأمر الذي كنت أسعـى إلى السيطرة على مقولته قبل ذلك.
·       مما تخشى سلمى الجيوسي اليوم؟ وكيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية؟
أخشى على الثقافة العربية من الاستمرار في الانهيار. لقد بدأتْ خطاً هابطاً من التدني منذ عقـود ولن ينقذها منـه أبدا أن تحاول تقوية نفسها عن طريق الغرب وثقافته فقط، فإن ثمة تاريخاً مسجلاً لاستحالة الترقي عن طريق الآخـر وحده. العرب لن يستطيعـوا أن يدخلوا المناخ الثقافي العالمي إلا إذا كان عندهم ما يقدمونه ويفخرون به وهذا لن يتم بالتقليد والاختراع الذي لا يُبنى على استمرارية مكينة. أعطيك مثلا دقيقاً على هذا: عندما بـدأت النهضة عندنا في نهاية القرن التاسع عشر لم يلجأ أي من الذين نجحوا في دفعها إلى الأمـام، إلى التماهي مع الغـرب بل عـادوا إلى جذورهم الأولى في محاولة ناجحة لإعـادة القوة والاستمرارية إلى الشعر فالقانون الفني هو أن يـقـوى إبداعك أولا عن طريق استمداد القـوة من تاريخ شعري رفيع في لغتك، ثم، بعد أن يقـوى الشعر بين يديك تنظـر إلى إبداع الآخـرين. هذا لا يعني أبدا أن يعود الشاعر القهقرى ولكن الحداثة لا تُبنى علـى خـراب بل على جسد قوي له تاريخ من الانضباط الفني والقوة والإبداع في لغتنا. المكان هنا يضيق عن التفسير الأكبر لهذا ولكنه أمر بديهي يدركه الإنسان الذي لم تصبه عـدوى الإحساس بالنقص الإبـداعي وتهويل إبداع الآخـرين، هذا لـو بقي في الذاكرة مكان للبديهة والحدس الفني. نعم أنا أخشى على هذه الثقافة من انهيار أكبر. يا ليتك تـرى ما أراه أنا على الإنترنت من كلام أجوف بعيد شديد البعد عن جماليات اللغـة وحـصافة المعنى وشاعريته.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق