الثلاثاء، 8 فبراير 2011

عازف العود نصير شما : المهرجانات العربية تبحث عن شباك التذاكر فقط


أكد أن المثقف العربي أمّـــي تجاه الموسيقى



·       أشعر بأني متى توقف التجريب لدي سأعتزل الموسيقى
·   عندما أجد أن هناك علاقة ليست على نفس المستوى بيني وبين الجمهور ، أعرف أن الخلل موجود فيّ ..
·       علمني العزف على العود أن أكون مؤدبا من الداخل وأن أرى الأشياء بحلم ..
·       لو لم أكن موسيقيا لكنت شاعرا



 يحدثنا نصير عن لقائه الأول مع العود قائلا : منذ أن بلغت العاشرة من عمري حتى بدأت أبحث عن وسيلة لامتلاك آلة للعزف، وكان عود أستاذ الأناشيد يشدّني إليه وأنا أرى أصابعه تتلاعب بالأوتار فتصدر أنغاما جميلة ننشد معها ونحلق في سموات بعيدة ، تركتُ أستاذي منشغلاً ، ثم تحايلت فأمسكت عوده ورحت أعزف عليه أنغاما متقطعة لا رابط بينها ، ولكنني كنتُ أحاول أن أصنع جملة موسيقية صحيحة. فجأة دخل الأستاذ عليّ وأنا احمل عوده، كنتُ من وجهة نظري أعزف، وكان من وجهة نظره يراني ألعب، فاستحقيت العقاب، وأمسك بقلم رصاص ثم وضعه بين أصبعين من أصابعي وأمسك على يدي بشدة فغابت روحي من الألم وصرختُ. هذه الحادثة ظلت معي دائما، وكنتُ كلما تذكرتها شعرت بالألم مجددا في أصابعي، لكنها جعلتني أقسم بأنني سأتعلم العزف على العود لأصبح أفضل من أستاذي الذي عاقبني.

* في ظل هذه الأزمة العاتية التي تعصف بأمتنا العربية ، هل نردد ما قاله المسرحي سعد الله ونوس " محكمون بالأمل ، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ " ؟

- أعتقد أن أحلام اليقظة هي من تشكل الأمل الذي نبحث عنه في الحاضر والمستقبل ، فالسعي إلى الأخير يبدأ بحلم يقظ ، ثم يتحول إلى أمل لتحقيق هذا الحلم وبعد ذلك يصبح واقعاً حقيقياً .
لكن السعي إلى الوصول نحو الواقع هو أصعب ما في الموضوع ، وإن يتحقق وينجز وينجح ، هذا ما نتمناه في العمل الثقافي والإبداعي ، لأنّ أي تجربة ، تحتاج إلى فترة زمنية طويلة ، وخصوصا التجارب الخلاقة والبناءة والمرجو منها عائد ثقافي ، فالعوائد الثقافية لا تنمو هكذا ببساطة، وإنما في بيئة صالحة وفي وقت مناسب ، من خلال فترة زمنية طويلة ، بنفس وبال طويلين ، بعد ذلك سنجد أن التجارب التي تحتاج على الأقل إلى خمس سنوات كي تقطف أوّل ثمارها ،هي تجارب تعتبر سريعة ، بالنسبة إليّ فإن كل تجربة قدمتها واشتغلت عليها طيلة  مسيرتي الفنية ، قد أخذت مني هذا الحلم وهذا الوقت وذاك الأمل في التحقيق..

* أين دور الفنان في هذه الظروف الساخنة ؟

- الفنان وحده غير قادر على أن يحلّ أزمات الشعوب ، لكن أعتقد أن الإنسان بحدّ ذاته يجب أن يؤهل على كافة المستويات التي يعمل فيها تأهيلا سليما ، الأمر الذي يتم من خلاله تشكيل مجتمع مهم ، من هنا يجب أن نبني للغد الآتي ، والمستقبل الواعد، أن نحرص على التربية الصالحة داخل البيت وخارجه ، وأن نعد أجيالا جديرة بالمسؤولية والتحمل ، أن نبني كل ذلك على خط واحد ومتواز ، وبالتالي تتشكل حينئذ حركة حقيقية سواء كانت ثقافية أو نهضوية .
كما قلت لا الفنان وحده ، ولا السياسي وحده ، ولا المدرس أيضا وحده ، قادرون على أن يواجهوا الأزمة ، يجب على الكل أن يعملوا على الاستثمار في الإنسان ، وهذا يعد  أعلى قيمة يطمح إليها العالم المتحضر اليوم ، إنك تخلق من الإنسان ، بحد ذاته ، وبكينونته المتعارف عليها ، أفقاً غير متنام من العلم والثقافة والاطلاع والوعي الكامل ، ومن التجارب كذلك ، هذه كلها تعمل على خلق مجتمع حقيقي يساهم فيه الفنان بالتوازن بين ما هو ميكانيكي وما هو روحاني .. الفن أوعلم الجمال، وجد من أجل أن يجعل رؤيتك للأشياء أجمل ، والحياة فيها مساحة من التأمل الشفاف الذي يشبه ألوان الربيع ، هذا الربيع - الشهر البسيط - الذي نحتاجه في كل سنة ، هو ما يحتاجه كل الإنسان في تكوين شخصيته ..

* ما حاجات الموسيقى اليوم ؟

-  للموسيقى حاجات كثيرة ، أولا إلى مناخات تنمو فيه بسلام ، وإلى إصرار من قبل العاملين في الثقافة على أن يحققوا تواجدا موسيقيا حقيقيا ، فضلا عن أن الموسيقي يجب أن يثابر على عمله ، وأن يشعر بثقل المسؤولية على عاتقه تجاه دوره كفنان ، كذلك أن يسعى في المجتمع إلى نيل فرصته بنفسه ، على أن لا ينتظر الآخرين أن يمنحوه الفرصة ، فالجهات التنفيذية والرسمية من واجبها أن تهيأ المناخ ، لكن الموسيقي نفسه يجب أن يجتهد اجتهادا كبيرا حتى يصل إلى قلوب الناس ، وأنا شخصيا أقول : عندما أجد أن هناك علاقة ليست على نفس المستوى بيني وبين الجمهور ، أعرف أن الخلل فيّ لا في الجمهور ، إذاً علينا أن نعرف كيف نمد الجسور مع أي جمهور أيا كان مستواه الثقافي ؟ فالجسور ذلك المكان المتميز الذي يمتلكه الموسيقي هو العلم الذي يتحصل عليه ، إضافة إلى الثقافة والتكنيك وامتلاك الفنان أدواته بشكل محترف وإبداعي ..

* كيف تقرأ واقع حال المهرجانات الموسيقية العربية ؟

- منذ أشهر قليلة شاركنا في مؤتمر مهم لملتقى المهرجانات العربية الذي أقيم في الشارقة ، وقد وصلنا إلى صيغة مفادها أن المهرجانات تخلت عن دورها الثقافي وبدأت تبحث عن شباك التذاكر ، إذ تستضيف المطرب الذي يظهر أكثر في الفضائيات ، لم يعد هناك لا قديم ولا جديد  تقدمه للناس..أما عن دور المهرجانات الحقيقي فهو أن تبحث بجدية عن المبدع في الأزقة والحواري ، وتأتي به إلى الناس ، لأن مهمتها دعم التجريب في مجال الإبداع وفي كافة الأشكال الفنية ، وأن تبحث عن التجارب الناضجة جدا ، وتعمل على إعادة تقديمها ، كذلك أن تكون جسرا أمينا غير قابل للصدأ في علاقتها مع الجمهور والمبدع ، إذ إن المهرجانات للأسف  تخلت عن هذا الدور الذي اختصرته بالترفيه والتجارة، بالنسبة إلى الورقة التي قدمتها في المؤتمر فكانت تحت عنوان " المهرجانات بين التجاري والثقافي " وقد لاقت نقاشا واتفاقا كبيرين ، حيث دخل جزء من اقتراحاتي الأساسية في التوصيات النهائية ..

* هل ما زلت مؤمنا بأن المثقف العربي مبطنا بالأمية الحقيقية اتجاه الموسيقى ؟

- نعم مازلت مؤمنا ومصرا على هذه المقولة ، لأن 99% من المثقفين العرب ليست لهم أي علاقة بالموسيقى ، لكي لا نظلمهم كثيرا ، قد يكتبون عن موسيقي متميز ، ويتبنون رؤيته ، لكن من دون أن يبذلوا جهدا كبيرا في معرفة الموسيقى بشكل حقيقي ، وهم في النهاية الخاسرون خسارة عظيمة بهذا الجانب ، لأن الموسيقى ممكن تضيف جماليات لا يمكن تخيلها لعملهم أيا كان ، ولسلوكهم وحياتهم كذلك ، مثلا هناك شاعر عظيم جدا ولكنه لا يفقه شيئا في باقي الفنون ، وهناك أيضا رسام مبدع ولكنه لا يفقه بباقي الفنون ، وهذا الشيء استغرب كثيرا له ، إذ أن اهتماماتي بالفنون انطلقت في نفس الخط وفي الأهمية ذاته ، حيث تابعت الشعر والسينما والمسرح ، وقد قمت بعمل أكثر من 30 عملا مسرحيا ( موسيقى تصويرية) ، إضافة إلى أفلام سينما ، وكنت أحضر البروفات وتفاصيل القراءات حتى أتمكن من كتابة العمل الموسيقي ، من خلال ذلك تكونت لدي ثقافة غزيرة حول المسرح والسينما والفنون كلها وحتى التشكيل ، حيث قمت في الثمانينيات بتحويل معارض تشكيلية إلى أعمال موسيقية ، لكن للأسف لم أسمع في حياتي عن تشكيلي تأثر بعمل موسيقي لأي كان وحوله إلى لوحة ..

* برأيك ما تقدمه أنت ألا يغير شيئا من هذا الواقع ؟

- هذا ما أفعله حقيقة ، لأنّ عملي يدخل في صلب الثقافة ، أحاول أن أجذب المثقفين إلى عالم الموسيقى ، فيما أدفع من جهة ثانية الموسيقيين إلى عالم الثقافة ، لأن الموسيقي غير مثقف ، أنا أعده أميا وآلاتي ، وكذلك المثقف الذي لا يعرف بباقي الفنون فهو ليس بمثقف ، لأن الثقافة سلوك وليست بعض عنواين الكتب وبعض الأسماء المشهورة الطنانة ، وإعادة ترديدها مع مقولاتهم .. هي بناء داخلي حقيقي  للإنسان ..


* أذكر لنا حادثة تأثرت بها ؟

- جاءني مرة صديق كان يتعلم العزف على العود، وعندما رأيته صدمت فقد اختفت يده وأصبح بيد واحدة، صورته هذه هزتني من الأعماق فلم أستطع الكلام ، نظرت إليه، فبادرني قائلا: الآن لم يعد في وسعي أن أعزف على العود فقد انفجر لغم في يدي كما ترى وصرت بيد واحدة، ويد واحدة لا تصفق، صمت طويلا قبل أن أستطيع الرد ثم قلت له بعد أن اجتاحت نفسي قوة غريبة: لا تخف ستستطيع العزف وستكمل المشوار، فقال: كيف، قلت له: أقسم لك أني لن أعزف ثانية قبل أن أجعلك قادرا على العزف. بعد هذه الحادثة لجأت الى غرفتي مقفلا الباب على نفسي محاولا العزف بيد واحدة متناسيا يدي الثانية السليمة، وبعد فترة كانت مقطوعة (قصة حب شرقية) التي ألفتها لتعزف على يد واحدة، كانت هذه هي الخطوة الأولى للعزف لمن فقد يده أثناء الحرب وهم جنود كثر، وفي ما بعد أصبحت هذه الطريقة شائعة بين طلابي الذين أدرسهم أساليب العزف على العود.

* ما الذي يميزك عن غيرك من العازفين ؟

- أهم ميزة أني أعزف للناس البسطاء وللعموم ، ولا للنخبة كما يقال عني ، كما أني وهبت عمري وحياتي كلها للآلة العود ، وجعلتها تستوعب فيض مشاعري وأحاسيسي وأحزاني ..

* كيف تنظر إلى واقع النقد الموسيقي اليوم؟

- النقد غائب تماما في أماكن مجهولة ، وتجاربنا ظلمت ظلما حقيقيا بغيابه ، إذ لا يوجد في الوطن العربي ناقد واحد يعرف معرفة علمية ودقيقية جدا هذا الفن ، أو كان من الموسيقيين ويكتب في النقد أويمتلك اللغة والأسلوب الصحيحين ، لا يوجد هذا على الإطلاق ، والنقد اليوم ليس سوى انطباعات ، ومجرد أناس يحضرون الحفلة ويستمعون إلى المقاطع الموسيقية ، ثم يكتبون عنها انطباعاتهم وآراءهم  ، هذا هو أغلب ما يوجد لدينا ، لكن الذي غير موجود أبدا هو حركة نقدية تقيم العمل الفني وتصححه وتشرحه للناس وتعيد تقديمه ..

* حدثنا عن بيت العود العربي؟

بيت العود العربي هو واحد من أحلام اليقظة ، فكرته ولدت حين كنت طالبا في بغداد ، وعندما أصبحت أستاذا للعود في تونس ، استطعت أن أضع خطة كاملة بالخروج بنتائج منطقية وعملية في تخريج العازفين والأساتذة في العود ، هكذا تأسس المشروع بفكرة مني وبتبن من دار أوبرا المصرية عام 1998 ، ومن حينها  إلى اليوم قمنا بتخريج عدد كبير من الطلبة والأساتذة ، والآن لدينا منزل ساحر هو منزل الهراوي ، جزء منه من القرن الرابع عشر وجزء ثان من السادس عشر ، لدينا ستون طالبا من جنسيات عربية وأوروبية ، خريجو بيت العود أصبحوا أساتذة فيه ، فتحنا فرع أول في الجزائر ، والآن الفرع الثاني على قيد الإنشاء في الأردن ، وهناك فرع نفكر به جديا ونناقشه في الخليج ربما سيكون في الإمارات ..ووزارة الثقافة المصرية هي التي تدعم المشروع وتموله ..


* لديك اهتمامات كثيرة بالشعر ، حدثنا عن دوره في موسيقاك؟

- أولا أسعى دائما إلى أن تكون علاقتي مع الشعراء واسعة ومتينة ، تكاد تكون أقوى من علاقتي مع الموسيقيين ، والدليل على ذلك أن أحد أعمالي قدمته لأجل شاعر اسمه " غارسيا لوركا " وكان ذلك في مدينة غرناطة .. إضافة إلى أني استوحيت أعمالا موسيقية عديدة من قصائد لشعراء عرب أمثال أدونيس ، ولا أخفي عليك أني لو لم أكن موسيقيا فإنني سأختار أن أكون شاعرا ..

* ما آخر أعمالك " ؟

- صدر لي مؤخرا  من أسبانيا سي دي تحت عنوان " مقامات زرياب " ، وكذلك سي دي آخر تحت عنوان "أحلام عتيقة" عن مؤسسة ماية موسيقى في الجزائر، وتزامن صدوره مع سي دي آخر صدر عن "ديوان" في القاهرة تحت عنوان "حالة وجد" في تجربة خاصة بين العود والايقاعات ، إضافة إلى  " رحيل القمر " الذي أعيد أصداره من لبنان ، والآن هناك سي دي عنوانه " أرض السواد " يتحدث عن الوجع العراقي برؤية موسيقية جديدة ..


* ماذا علمك العود ؟

- علمني أن أكون مؤدبا من الداخل ، أن أرى الأشياء بحلم ، علمني كيف أفكر عبر نافذة نظيفة وساحرة هي الفن ، لذلك أنا أعلم الطلبة إلى أقصى حدود التعليم ، ليس لدي مشكلة في أن يصبح الطالب عازفا عظيما ، بل على العكس ، أنا أسعى إلى ذلك ، هذا لأنّ نفسي تربت من الداخل على أن تكون مساحة كبيرة جدا تستطيع أن  تستوعب كل البشر ..

          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق