الأحد، 16 يناير 2011

سيدة البحار ومدينة الأرجوان

مدينة صور اللبنانية، إنها المدينة الأقدم في التاريخ، تدعى أم المدن وسيدة البحار ومدينة الأرجوان، هي التي فتنت الشاعر الإغريقي نونوس إذ قال فيها: (أيتها العذراء، لن أقطن السماء بعد الاَن لحبي لك، فمثواك أجمل من الأولمب)، وهي التي جاءت في الكتاب المقدس (أية مدينة كصور كاملة الجمال. . صور أغنى الشعوب. . )! شتعدّ مدينة صور اللبنانية رابعة أكبر مدن لبنان، ومعنى اسمها بالفينيقية (الصخر أو السور) وهو منقوش على المسكوكات القديمة التي وجدت في أرضها، وهنا نلفت إلى أن إحدى مدن سلطنة عمان تحمل الاسم نفسه (صور) وتدعى المدينة البيضاء. .

يعود تاريخ تأسيس صور إلى بدايات الألف الثالث ق. م كما تقول المصادر، حيث كانت ملكة البحار على جزيرة صغيرة، حصدت شهرتها من صناعة الأرجوان (أول من اكتشف الصباغ الأرجواني) والزجاج الشفاف(أوّل مدينة صنعت الزجاج الشفاف). فكانت قبلة أطماع كبار الفاتحين أمثال البابلي نبوخذ نصر والإسكندر المقدوني، المعروف بذي القرنين، لما تشكله من موقع جغرافي مهم. .

أنجبت صور العديد من المكتشفين والمخترعين والفلاسفة والقادة، من بينهم: العالم الجغرافي الصوري الفذ مارينوس أوّل من ابتكر خطوط الطول والعرض واستعملها لتحديد الأماكن على الخرائط، كذلك قدموس ابن ملك صور الذي كان له الفضل في إيصال الأبجدية الفينيقية إلى الإغريق، فيما أخذت قارة أوروبا اسمها من ابنة اَجنور ملك صور الأميرة أوربا. . كما لا ننسى ملكة قرطاج أليسار (الأميرة الفينيقية) كما وصفها نزار قباني. .

لا بد لمن يزور مدينة صور أن يتعرف إلى اَثارها ومعالمها التاريخية و(دبي الثقافية) زارت المدينة الواقعة في جنوبي لبنان، وتعرفت إلى تاريخها العريق، فيما اطلعت على الإرث الحضاري الكبير الذي تتمتع به هذه المدينة، فكان لنا جولتان: الأولى في وسط صور، حيث المكان الذي يحتوي على مدينة أموات رومانية بيزنطية بجانبها بعض المزارات الدينية، إضافة إلى الميدان الرياضي أو الملعب الروماني والبوابة التذكارية (قوس النصر). . أما الجولة الثانية فكانت في موقع اَخر على البحر وهو جزء من صور المدينة.

مدينة الأموات جولتنا الأولى بدأت بالمدخل الرئيس ، حيث تمتد طريق طويلة تعود إلى الفترة البيزنطية، تظللها أشجار ذات رائحة جميلة، وتنتشر على جانبيها المدافن التي تعود لفترة من القرن الأول حتى السادس الميلادي، فيما توجد بين هذه المدافن مزارات دينية ومعابد صغيرة. .

لا أخفي عليكم أن المكان كان باعثاً للتهيؤات والتخيلات التي تتقدمها صور للأشخاص المدفونين هناك، فكانت المدافن تبدو وكأنها غابة من الأرواح وبقايا العظام، عدا صدى الأصوات الذي يلاحقك في كل مكان، فأنت في حضرة مقابر أكل الدهر عليها وشرب، وما أدراك ما المقابر وما تثيره في النفس من وحشة وارتعاد! .

تختلف هذه المدافن شكلاً ومحتوى عن المدافن الموجودة اليوم، فهي ذات أنواع كثيرة، فهناك مدافن من غرفة واحدة وأخرى من أكثر من غرفة، وأكثر أنواع المدافن هو الدفن بالنواويس التي تحمل صوراً لثيران وخراف وأكاليل، هذا إضافة إلى أسماء أصحابها ومهنهم وألقابهم. . الميت عندنا لا يأخذ معه إلا الكفن فضلاً عن أعماله الصالحة والطالحة، فيما كان الميت قديماً - من المنظور البيزنطي - لا يأخذ إلا القوارير العطرية الزجاجية والعقود الذهبية وبعض قطع النقود البرونزية والفضية والذهبية. .

يلي المدافن كنيستان يعود تاريخهما - بحسب المصادر - إلى القرن الخامس الميلادي، الأولى تتميز بوجود حنيتين تحمل أرضها تزيينات رخامية من أشكال هندسية، والثانية تقع بقرب قوس النصر، لها أيضاً أرضيات رخامية كما أن جدرانها مغطاة بفسيفساء زجاجية. .

قوس النصر هنا نصل إلى البوابة التذكارية المسماة (قوس النصر) وهي على شكل قوس عملاق، هنا تتجلى قدرات الإنسان القديم ومهاراته المدهشة، هنا يقف التاريخ شامخاً وشاهداً على مدينة تعاقبت عليها الحضارات منذ عصور ما قبل الميلاد، وهنا لا بد من وقفة أمام بوابة يعود بناؤها إلى القرن الثاني الميلادي، وقد بناها سكان المدينة على شرف الإمبراطور الروماني هدريان الذي زار الشرق خلال القرن الثاني وهو الذي جعلها عاصمة اتحادية لولاية الشرق. .

والبوابة مبنية من الحجر الرملي ومغطى بطبقة من الجص الأبيض ويحمل ألواناً مختلفة. . أما على جانبي البوابة فيوجد بابان أحدهما يؤدي إلى طريق للمشاة.

عند البوابة التذكارية تنتهي الطريق البيزنطية وتبدأ الطريق الرومانية باتجاه الغرب التي تعود إلى القرن الأول الميلادي، وشكل الطريق محدب، ويمكن مشاهدة - بأم العين - اَثار دواليب عربات السباق والنقل على أحجار الطريق. .

من جهة الجنوب توجد قناطر عديدة متراصة على خط واحد، حيث تعلوها قنوات مياه مجرورة من ينابيع رأس العين. . أما الفراغات تحت القناطر فكانت تستخدم كغرف ومحال تجارية. .

في الجهة نفسها توجد طريق خاصة للمشاة وتعود إلى القرن الرابع الميلادي وقد كانت الطريق بحسب المصادر مغطاة بسقف، ما يحمي المشاة من المطر وأشعة الشمس . .

ملعب سباق العربات في ملعب سباق العربات تقف مذهولاً، هنا قبل مئات السنين، كان للحياة طعم اَخر، لحظات سريعة تمر أمام هذا الهيكل الروماني، ويتخيل لك أشخاص من تلك الفترة وكأنك تسمع هدير العربات وصراخ المقاتلين. .

يعود بناء الملعب إلى القرن الثاني الميلادي ويبلغ طوله 600 م وعرضه 120م ويمكن أن يتسع إلى 40000 متفرج ويعدّ ثاني أكبر ملعب من نوعه مسجل في العالم. . وقد كانت الرياضة الرئيسة الممارسة فيه هي سباق العربات وهي أكثر الرياضات الشعبية اَنذاك. . توجد في الملعب مدرجات عدة، إضافة إلى أبنية خاصة بالفرق الرياضية. .

يحتوي الملعب على ناديين: نادي الفريق الأزرق، ونادي الفريق الأخضر، أما الأول فهو يحمل اسم (البينتون) ويعني الأزرق باللغة اليونانية القديمة، يقع في شرق الملعب ومقسم لعدة قاعات صغيرة، وكان يوجد فيه - بحسب المصاد - حمام بخاري. .

أما بالنسبة إلى النادي الثاني فهو يقع غرب سباق العربات ومقسم إلى عدة قاعات أرضها مغطاة بالفسيفساء. .

كما كانت توجد في الملعب كنيسة تدعى (كنيسة الذكريات) ويطلق على هذا النوع من الكنائس اسم كنائس الشهداء نظراً لأن معظمها أقيم تخليداً لذكرى شهداء المسيحية الذين استشهدوا على يد الوثنيين خاصة في القرن الثالث ميلادي. .

الأعمدة الشاهقة أما الجولة الثانية فكانت كما قلنا في موقع اَخر، وهناك عند المدخل الرئيس ، لا بد من وقفة تأمل في روعة المكان وجماله، حيث الطريق الموزاييك التي تعود إلى القرن الثالث الميلادي، وحيث الأعمدة الرخامية الشاهقة والمطلة على البحر كأنها صواري السفن من شجر السرو والسنديان. .

يقسم الطريق إلى ثلاثة أقسام بوساطة صفين من أعمدة الرخام الموشى بالأخضر، وعلى جانبي الطريق تصطف مجموعة من بقايا أبنية متناثرة فوق بعضها بعضاً على أرضيات من موزاييك. .

تعرفنا في جولتنا إلى الحمام (النادي الصحي) الذي يعود بناؤه إلى الفترة الرومانية في القرن الثاني والثالث الميلادي، ومقسم إلى ثلاثة أقسام: الساخن والفاتر والبارد، ويمكن مشاهدة بعض القناطر التي كانت ترفع مستوى الحمام، إضافة إلى القاعات الباردة والمغطاة بالرخام قرب الطريق مباشرة، فيما بقي جزء من الأسطوانات الفخارية لأرض الحمام. . وهناك يوجد مسرح يطلق عليه (المسرح المربع) يتسع لنحو 2500 متفرج.

كذلك توجد قاعة رياضية تقع جنوبي الحمام ولا يزال يوجد فيها ثمانية أعمدة من الغرانيت المصري الأسود، وكانت تقوم بداخلها الألعاب والمسابقات الرياضية كالمصارعة والملاكمة. .

في الموقع نفسه توجد الكاتدرائية الصليبية التي أقيمت في القرن الثاني عشر الميلادي واستخدم في بنائها أعمدة من الغرانيت. .

بقيت الكاتدرائية - بحسب المصادر- تحافظ على شكلها العام حتى عام 1870م حين قام الألماني ساب بأعمال حفر تحت الكاتدرائية للعثور على رفات الإمبراطور الألماني بربروسا الذي دفن فيها، لكنه فشل في مهمته. وفي هذه الكاتدرائية تم تتويج عدد من ملوك القدس والاحتفال بالزيجات الملكية. .

نبع حيرام وأخيراً نصل إلى المبنى المعروف بنبع حيرام وهو برج عسكري قائم على نبع مياه لحمايته. . والنبع موجود تحت البرج ويتم النزول إليه بدرج. . والمبنى في وضعه الحالي يعود للفترة البيزنطية ويمكن مشاهدة صليب بيزنطي على عتبة باب المبنى لا يزال في وضعه الطبيعي. .

ويحكى أن قرب هذا النبع جلس السيد المسيح على صخرة حين زيارته للمدينة مع يوحنا. . ويقال: إن أهل صور خلال القرن التاسع عشر كانوا يقيمون احتفالات خاصة حول النبع في أول شهر أكتوبر/ تشرين الأول حين يصبح لون المياه أحمر وكانوا يحضرون جرار المياه من البحر ويسكبونها في مياه العين فتعود المياه صافية وكانوا يسمون هذا الاحتفال زفاف مياه البحر إلى اليم وكانت هذه الاحتفالات تتم وسط جو من الموسيقى والغناء. .

في الختام، لا بد أن نذكر بعض ما ورد في الكثير من كتب الرحالة والمؤرخين والجغرافيين أن (لارنكا) المدينة القبرصية الشهيرة هي مستعمرة صورية أسسها التجار الصوريون وكانت معروفة في العصر الفينيقي باسم كيتيون الصورية، كما أن بانورموس (بالرمو) وسوليس (سولي) هما من أهم مدن الصوريين في صقلية. .

وتتفق جميع المصادر التاريخية وأنباء العهد العتيق على أن التوسع الصوري قد شمل قسماً كبيراً من إسبانيا، فيما يروي سترابون (المؤرخ اليوناني الشهير) عن إيراتوستن (نحو280 ق. م) أن الصوريين كان لهم ثلاثمائة مدينة على شواطئ موريتانيا على المحيط، دمرها أهل البلاد فيما بعد. .

أخيراً نردد ما قاله سعيد عقل عن المدينة (هذه بطلة المدن. . الكلام عليها ما له نهاية).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق